الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَوَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلَمْ يَأْتِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُسِرُّونَ الْكُفْرَ بِاللَّهِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ {نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، يَقُولُ: خَبَرُ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهُمْ، حِينَ عَصَوْا رُسُلَنَا وَخَالَفُوا أَمْرَنَا، مَاذَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عُقُوبَتِنَا؟ ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ أُولَئِكَ الْأُمَمِ الَّتِي قَالَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَؤُهُمْ، فَقَالَ: (قَوْمُ نُوحٍ)، وَلِذَلِكَ خَفَضَ "الْقَوْم" لِأَنَّهُ تَرْجَمَ بِهِنَّ عَنِ "الَّذِين" وَ" الَّذِينَ " فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَلَمْ يَأْتِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ خَبَرُ قَوْمِ نُوحٍ وَصَنِيعِي بِهِمْ، إِذْ كَذَّبُوا رَسُولِي نُوحًا، وَخَالَفُوا أَمْرِي؟ أَلَمْ أُغْرِقْهُمْ بِالطُّوفَانِ؟ (وَعَادٍ)، يَقُولُ: وَخَبَرِ عَادٍ، إِذْ عَصَوْا رَسُولِي هُودًا، أَلَمْ أُهْلِكْهُمْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ؟ وَخَبَرِ ثَمُودَ، إِذْ عَصَوْا رَسُولِي صَالِحًا، أَلَمْ أُهْلِكْهُمْ بِالرَّجْفَةِ، فَأَتْرُكُهُمْ بِأَفْنِيَتِهِمْ خُمُودًا؟ وَخَبَرِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ عَصَوْهُ وَرَدُّوا عَلَيْهِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ، أَلَمْ أَسْلُبْهُمُ النِّعْمَةَ، وَأُهْلِكْ مَلِكَهُمْ نَمْرُودَ؟ وَخَبَرِ أَصْحَابِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَلَمْ أُهْلِكْهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِذْ كَذَّبُوا رَسُولِي شُعَيْبًا؟ وَخَبَرِ الْمُنْقَلِبَةِ بِهِمْ أَرْضُهُمْ، فَصَارَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا، إِذْ عَصَوْا رَسُولِي لُوطًا، وَكَذَّبُوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي مِنَ الْحَقِّ؟ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَأَمِنَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ، أَنْ يُسْلَكَ بِهِمْ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَتَعْجِيلِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، سَبِيلَ أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَيَحِلَّ بِهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رَسُولِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَلَّ بِهِمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ رُسُلُنَا، إِذْ أَتَتْهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ)، قَالَ: قَوْمُ لُوطٍ، انْقَلَبَتْ بِهِمْ أَرْضُهُمْ، فَجُعِلَ عَالِيهَا سَافِلَهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ)، قَالَ: هُمْ قَوْمُ لُوطٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ عُنِيَ بِ "الْمُؤْتَفِكَات" قَوْمَ لُوطٍ، فَكَيْفَ قِيلَ: "الْمُؤْتَفِكَات" فَجُمِعَتْ وَلَمْ تُوَحَّدْ؟ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ قَرْيَاتٍ ثَلَاثًا، فَجُمِعَتْ لِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ بِالتَّاءِ، عَلَى قَوْلِ اللَّهِ: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}، [سُورَةُ النَّجْمِ: 53]. فَإِنْ قَالَ: وَكَيْفَ قِيلَ: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ وَاحِدًا؟ قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَتَى كُلَّ قَرْيَةٍ مِنَ الْمُؤْتَفِكَاتِ رَسُولٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَتَكُونُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ إِلَيْهِمْ لِلدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ عَنْ رِسَالَتِهِ، رُسُلًا إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ لِقَوْمٍ نُسِبُوا إِلَى أَبِي فُدَيْكٍ الْخَارِجِيِّ: "الْفُدَيْكَات" وَ" أَبُو فُدَيْكٍ " وَاحِدٌ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَهُ لَمَّا نُسِبُوا إِلَيْهِ وَهُوَ رَئِيسُهُمْ، دُعُوا بِذَلِكَ، وَنُسِبُوا إِلَى رَئِيسِهِمْ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى ذَلِكَ: أَتَتْ قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَسَائِرَ الْأُمَمِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، رُسُلُهُمْ مِنَ اللَّهِ بِالْبَيِّنَاتِ. وَقَوْلُهُ: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَمَا أَهْلَكَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَمَ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَهَا إِلَّا بِإِجْرَامِهَا وَظُلْمِهَا أَنْفُسَهَا، وَاسْتِحْقَاقِهَا مِنَ اللَّهِ عَظِيمَ الْعِقَابِ، لَا ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، وَلَا وَضْعًا مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عُقُوبَةً فِي غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهَا أَهْلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ لَا خَلَلَ فِي تَدْبِيرِهِ، وَلَا خَطَأَ فِي تَقْدِيرِهِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ، حَتَّى أَسْخَطُوا عَلَيْهِمْ رَبَّهُمْ، فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَعُذِّبُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِوَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَمَّا "الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات" وَهُمُ الْمُصَدِّقُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَآيَاتِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ صِفَتَهُمْ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ وَأَعْوَانُهُمْ {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، يَقُولُ: يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، [ {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}...] {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، يَقُولُ: وَيُؤَدُّونَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، يَقُولُ: وَيُعْطُونَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ أَهْلَهَا {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فَيَأْتَمِرُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَيَاهُمْ عَنْهُ {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ}، يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ، الَّذِينَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، فَيُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّتَهُ، لَا أَهْلَ النِّفَاقِ وَالتَّكْذِيبِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، النَّاهُونَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، الْآمِرُونَ بِالْمُنْكِرِ، الْقَابِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْ أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ ذُو عِزَّةٍ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنِ انْتَقَمَ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَكُفْرِهِ بِهِ، لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُ مَانِعٌ، وَلَا يَنْصُرُهُ مِنْهُ نَاصِرٌ (حَكِيمٌ)، فِي انْتِقَامِهِ مِنْهُمْ، وَفِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ "الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَر" فَ "الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوف" دُعَاءٌ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَ" النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ " النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالشَّيَاطِينِ. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)، قَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَاوَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَرُّوا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، يَقُولُ: بَسَاتِينَ تَجْرِي تَحْتَ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ (خَالِدِينَ فِيهَا)، يَقُولُ: لَابِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، مُقِيمِينَ لَا يَزُولُ عَنْهُمْ نَعِيمُهَا وَلَا يُبِيدُ {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}، يَقُولُ: وَمَنَازِلَ يَسْكُنُونَهَا طَيِّبَةً. وَ "طِيْبُهَا" أَنَّهَا، فِيمَا ذُكِرَ لَنَا، كَمَا:- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ جَسْرٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: «سَأَلْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}، فَقَالَا: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ! سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ مِنْ لُؤْلُؤٍ، فِيهِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا». حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ جَسْرِ بْنِ فَرْقَدٍ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}، قَالَ: قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ، فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا، عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ فِرَاشًا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدَةً، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنًا مِنْ طَعَامٍ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً، وَيُعْطَى الْمُؤْمِنُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ مَا يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْمَعَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَهَذِهِ الْمَسَاكِنُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي وَصَفَهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ، (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ). وَ "فِي" مِنْ صِلَةِ " مَسَاكِنَ ". وَقِيلَ: "جَنَّاتِ عَدْن" لِأَنَّهَا بَسَاتِينُ خُلْدٍ وَإِقَامَةٍ، لَا يُظْعَنُ مِنْهَا أَحَدٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ لَهَا (جَنَّاتُ عَدْنٍ)، لِأَنَّهَا دَارُ اللَّهِ الَّتِي اسْتَخْلَصَهَا لِنَفْسِهِ، وَلِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: "عَدَنَ فُلَانٌ بِأَرْضِ كَذَا" إِذَا أَقَامَ بِهَا وَخَلَدَ بِهَا، وَمِنْهُ "الْمَعْدِن" وَيُقَالُ: "هُوَ فِي مَعْدِنِ صِدْق" يَعْنِي بِهِ: أَنَّهُ فِي أَصْلٍ ثَابِتٍ. وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بَيْتَ الْأَعْشَى: وَإِنْ يَسْتَضِيفُوا إِلَى حِلْمِهِ يُضَافُوا إِلَى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ وَيُنْشَدُ: " قَدْ وَزَنْ ". وَكَالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ فِيمَا ذُكِرَ، يَتَأَوَّلُونَهُ. حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ خَصِيفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (جَنَّاتِ عَدْنٍ)، قَالَ: "مَعْدِنُ الرَّجُل" الَّذِي يَكُونُ فِيهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زِيَادَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ الذِّكْرَ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ، فِي السَّاعَةِ الْأُولَى مِنْهُنَّ يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ. ثُمَّ يَنْزِلُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى جَنَّةِ عَدْنٍ، وَهِيَ فِي دَارِهِ الَّتِي لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَهِيَ مَسْكَنُهُ، وَلَا يَسْكُنُ مَعَهُ مِنْ بَنِي آدَمَ غَيْرُ ثَلَاثَةٍ: النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ، وَذَكَرَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَة». حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَدَنَ دَارُهُ- يَعْنِي دَارَ اللَّهِ- الَّتِي لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَهِيَ مَسْكَنُهُ، وَلَا يَسْكُنُهَا مَعَهُ مِنْ بَنِي آدَمَ غَيْرَ ثَلَاثَةٍ: النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ. يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: طُوبَى لِمَنْ دَخَلَك». وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى (جَنَّاتِ عَدْنٍ)، جَنَّاتِ أَعْنَابٍ وَكُرُومٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ الرَّازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَنِيسَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ، فَقَالَ: هِيَ الْكُرُومُ وَالْأَعْنَابُ، بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ اسْمٌ لِبُطْنَانِ الْجَنَّةِ وَوَسَطِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "عَدْن" بُطْنَانُ الْجَنَّةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: (جَنَّاتِ عَدْنٍ)، قَالَ: بُطْنَانُ الْجَنَّةِ قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ، فَقُلْتُ: مَا بُطْنَانُهَا؟ وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى فِي حَدِيثِهِ، فَقُلْتُ لِلْأَعْمَشِ: مَا بُطْنَانُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: وَسَطُهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ وَأَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: (جَنَّاتِ عَدْنٍ)، قَالَ: بُطْنَانُ الْجَنَّةِ. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِمَثَلِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: (جَنَّاتِ عَدْنٍ)، قَالَ: بُطْنَانُ الْجَنَّةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: (جَنَّاتِ عَدْنٍ)، قَالَ: بُطْنَانُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: "عُدْن" اسْمٌ لِقَصْرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ أَبُو غَسَّانَ عَنْ عَوْنِ بْنِ مُوسَى الْكِنَانِيِّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "جَنَّاتُ عَدْن" وَمَا أَدْرَاكَ مَا جَنَّاتُ عَدْنٍ؟ قَصْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ، أَوْ حَكَمُ عَدْلٍ، وَرَفَعَ بِهِ صَوْتَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ يَقُولُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا جَنَّاتُ عَدْنٍ؟ قَصْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ، أَوْ حَكَمُ عَدْلٍ رَفَعَ الْحَسَنُ بِهِ صَوْتَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يُعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا يُقَالُ لَهُ "عَدْن" حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَالرُّوحُ، لَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ حِبَرَةٌ، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ نَاصِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يُعْلَى بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا يُقَالُ لَهُ "عُدْن" لَهُ خَمْسَةُ آلَافِ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ خَمْسَةُ آلَافِ حِبَرَةٍ، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ. وَقِيلَ: هِيَ مَدِينَةُ الْجَنَّةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: فِي (جَنَّاتِ عَدْنٍ)، قَالَ: هِيَ مَدِينَةُ الْجَنَّةِ، فِيهَا الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ، وَأَئِمَّةُ الْهُدَى، وَالنَّاسُ حَوْلَهُمْ بَعْدُ، وَالْجَنَّاتُ حَوْلَهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ نَهْرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ وَاصِلِ بْنِ السَّائِبِ الرَّقَّاشِيِّ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "عَدْن" نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، جَنَّاتُهُ عَلَى حَافَّتَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَرِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَبِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ! فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لَا نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ! قَالَ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ عَنْ حَفْصٍ عَنْ شَمْرٍ قَالَ: يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ الشَّاحِبِ، إِلَى الرَّجُلِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِكَرَامَةِ اللَّهِ! أَبْشِرْ بِرِضْوَانِ اللَّهِ! فَيَقُولُ مِثْلُكَ مَنْ يُبَشِّرُ بِالْخَيْرِ؟ وَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا الْقُرْآنُ الَّذِي كُنْتَ أُسْهِرُ لَيْلَكَ، وَأُظْمِئُ نَهَارَكَ! فَيَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ رَبَّهُ، فَيَمْثُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، عَبْدُكَ هَذَا، اجْزِهِ عَنِّي خَيْرًا، فَقَدْ كُنْتُ أُسْهِرُ لَيْلَهُ، وَأَظْمِئُ نَهَارَهُ، وَآمُرُهُ فَيُطِيعُنِي، وَأَنْهَاهُ فَيُطِيعُنِي. فَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: فَلَهُ حُلَّةُ الْكَرَامَةِ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ، فَإِنَّهُ أَهْلُ ذَلِكَ! فَيَقُولُ: فَلَهُ رِضْوَانِي قَالَ: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}. وَابْتُدِئَ الْخَبَرُ عَنْ "رِضْوَانِ اللَّه" لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَرَفَعَ، وَإِنْ كَانَ "الرِّضْوَان" فِيمَا قَدْ وَعَدَهُمْ. وَلَمْ يَعْطِفْ بِهِ فِي الْإِعْرَابِ عَلَى "الْجَنَّات" وَ" الْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ "لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ تَفْضِيلُ اللَّهِ رِضْوَانَهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى سَائِرِ مَا قَسَمَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَعْطَاهُمْ مِنْ كَرَامَتِهِ، نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ فِي الْكَلَامِ لِآخَرَ: " أَعْطَيْتُكَ وَوَصَلْتُكَ بِكَذَا، وَأَكْرَمْتُكَ، وَرِضَايَ بَعْدُ عَنْكَ أَفْضَلُ لَكَ ". {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي وَعَدَتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، يَقُولُ: هُوَ الظَّفَرُ الْعَظِيمُ، وَالنَّجَاءُ الْجَسِيمُ، لِأَنَّهُمْ ظَفِرُوا بِكَرَامَةِ الْأَبَدِ، وَنَجَوْا مِنَ الْهَوَانِ فِي سَقَرَ، فَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ}، بِالسَّيْفِ وَالسِّلَاحِ (وَالْمُنَافِقِينَ). وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيصِفَةِ "الْجِهَاد" الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَهُ بِجِهَادِهِمْ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَبِكُلِّ مَا أَطَاقَ جِهَادَهُمْ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ حَسَنِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ جُنْدُبٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}، قَالَ: بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلِيَكْفَهِرَّ فِي وَجْهِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَمَرَهُ بِجِهَادِهِمْ بِاللِّسَانِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ، وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ، وَأَذْهَبَ الرِّفْقَ عَنْهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}، قَالَ: "الْكَفَّار" بِالْقِتَالِ، وَ" الْمُنَافِقِينَ " أَنْ يَغْلُظَ عَلَيْهِمْ بِالْكَلَامِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، يَقُولُ: جَاهِدِ الْكَفَّارَ بِالسَّيْفِ، وَأَغْلِظْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِالْكَلَامِ، وَهُوَ مُجَاهَدَتُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَمَرَهُ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}، قَالَ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ، وَالْمُنَافِقِينَ بِالْحُدُودِ، أَقِمْ عَلَيْهِمْ حُدُودَ اللَّهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَاهِدَ الْكَفَّارَ بِالسَّيْفِ، وَيُغْلِظَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي الْحُدُودِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، مَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَادِ الْمُنَافِقِينَ، بِنَحْوِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ تَرَكَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمِينَ بَيْنَ أَظُهْرِ أَصْحَابِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ؟ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ أَظْهَرَ مِنْهُمْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ، ثُمَّ أَقَامَ عَلَى إِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَأُخِذَ بِهَا، أَنْكَرَهَا وَرَجَعَ عَنْهَا وَقَالَ: "إِنِّي مُسْلِم" فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ بِلِسَانِهِ، أَنْ يَحْقِنَ بِذَلِكَ لَهُ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَتَوَكَّلَ هُوَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِسَرَائِرِهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْخَلْقِ الْبَحْثَ عَنِ السَّرَائِرِ. فَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ وَإِطْلَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَاعْتِقَادِ صُدُورِهِمْ، كَانَ يُقِرُّهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِ الصَّحَابَةِ، وَلَا يَسْلُكُ بِجِهَادِهِمْ مَسْلَكَ جِهَادِ مَنْ قَدْ نَاصَبَهُ الْحَرْبَ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ قَالَ قَوْلًا كَفَرَ فِيهِ بِاللَّهِ، ثُمَّ أُخِذَ بِهِ أَنْكَرَهُ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ بِلِسَانِهِ. فَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُهُ إِلَّا بِمَا أَظْهَرَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ، عِنْدَ حُضُورِهِ إِيَّاهُ وَعَزْمِهِ عَلَى إِمْضَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ، دُونَ مَا سَلَفَ مِنْ قَوْلٍ كَانَ نَطَقَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَدُونَ اعْتِقَادِ ضَمِيرِهِ الَّذِي لَمْ يُبِحِ اللَّهُ لِأَحَدٍ الْأَخْذَ بِهِ فِي الْحُكْمِ، وَتَوَلَّى الْأَخْذَ بِهِ هُوَ دُونَ خَلْقِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاشْدُدْ عَلَيْهِمْ بِالْجِهَادِ وَالْقِتَالِ وَالْإِرْهَابِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، يَقُولُ: وَمَسَاكِنُهُمْ جَهَنَّمُ، وَهِيَ مَثْوَاهُمْ وَمَأْوَاهُمْ {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، يَقُولُ: وَبِئْسَ الْمَكَانُ الَّذِي يُصَارُ إِلَيْهِ جَهَنَّمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْوَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكَ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْقَوْلِ الَّذِي كَانَ قَالَهُ، الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ: الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ. وَكَانَ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ، مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: « {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}، قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: "إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حُقًّا، لَنَحْنُ أَشَرُّ مِنَ الْحُمُرِ!" فَقَالَ لَهُ ابْنُ امْرَأَتِهِ: وَاللَّهِ، يَا عَدُوَّ اللَّهِ، لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قُلْتَ، فَإِنِّي إِنْ لَا أَفْعَلُ أَخَافُ أَنْ تُصِيبَنِي قَارِعَةٌ، وَأُؤَاخَذُ بِخَطِيئَتِكَ! فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُلَاسَ فَقَالَ: " يَا جُلَاسُ أَقُلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَحَلِفَ مَا قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}، فِي الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ أَقْبَلَ هُوَ وَابْنُ امْرَأَتِهِ مُصْعَبٌ مِنْ قُبَاءٍ، فَقَالَ الْجُلَاسُ: إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ أَشَرُّ مِنْ حُمُرِنَا هَذِهِ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا! فَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَا وَاللَّهِ، يَا عَدُوَّ اللَّهِ، لِأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قُلْتَ! فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ الْقُرْآنُ، أَوْ تُصِيبَنِي قَارِعَةٌ، أَوْ أَنْ أَخْلِطَ [بِخَطِيئَتِهِ]، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْبَلْتُ أَنَا وَالْجُلَاسُ مِنْ قُبَاءٍ، فَقَالَ كَذَا وَكَذَا، وَلَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ أُخْلَطَ بِخَطِيئَتِهِ، أَوْ تُصِيبَنِي قَارِعَةٌ، مَا أَخْبَرْتُكَ. قَالَ: فَدَعَا الْجُلَاسَ فَقَالَ لَهُ: يَا جُلَاسُ أَقُلْتَ الَّذِي قَالَ مُصَعْبٌ؟ قَالَ: فَحَلَفَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} الْآيَةَ». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ الَّذِي قَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، فِيمَا بَلَغَنِي الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ فَرَفَعَهَا عَنْهُ رَجُلٌ كَانَ فِي حِجْرِهِ، يُقَالُ لَهُ "عُمَيْرُ بْنُ سَعِيد" فَأَنْكَرَهَا، فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَهَا. فَلَمَّا نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، تَابَ وَنَزَعَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ فِيمَا بَلَغَنِي. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {كَلِمَةَ الْكُفْرِ}، قَالَ أَحَدُهُمْ: " لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ "! فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ مَا قَالَ لَحَقٌّ، وَلَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حِمَارٍ! قَالَ: فَهَمَّ الْمُنَافِقُونَ بِقَتْلِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ. حَدَّثَنِي أَيُّوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ، فَإِذَا جَاءَ فَلَا تُكَلِّمُوهُ. فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَمَا فَعَلُوا، حَتَّى تَجَاوَزَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا}، ثُمَّ نَعَتَهُمْ جَمِيعًا، إِلَى آخَرِ الْآيَة». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ: قَالُوا: وَالْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا}، إِلَى قَوْلِهِ: {مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا أَحَدُهُمَا مِنْ جُهَيْنَةَ، وَالْآخِرُ مِنْ غِفَارٍ، وَكَانَتْ جُهَيْنَةُ حُلَفَاءَ، الْأَنْصَارِ، وَظَهَرَ الْغِفَارِيُّ عَلَى الْجُهَنِيِّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِلْأَوْسِ: انْصُرُوا أَخَاكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: "سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْك" وَقَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ: 8]، فَسَعَى بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ، فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كَذِبًا عَلَى كَلِمَةِ كُفْرٍ تَكَلَّمُوا بِهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوهَا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ الْجُلَاسَ قَالَهُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَائِلُهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ وَالْقَوْلُ مَا ذَكَرَ قَتَادَةُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ. وَلَا عِلْمَ لَنَا بِأَيِّ ذَلِكَ مِنْ أَيٍّ، إِذْ كَانَ لَا خَبَرَ بِأَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْحُجَّةَ، وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى يَقِينِ الْعِلْمِ بِهِ، وَلَيْسَ مِمَّا يُدْرَكُ عِلْمُهُ بِفِطْرَةِ الْعَقْلِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي الَّذِي كَانَ هَمَّ بِذَلِكَ، وَمَا الشَّيْءُ الَّذِي كَانَ هَمَّ بِهِ. [ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ الَّذِي هَمَّ بِهِ]، قَتَلَ ابْنَ امْرَأَتِهِ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ مَا قَالَ: وَخَشِيَ أَنْ يُفْشِيَهُ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هَمَّ الْمُنَافِقُ بِقَتْلِهِ يَعْنِي قَتْلَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي قَالَ لَهُ: " أَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ "! فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ الَّذِي هَمَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَالَّذِي هَمَّ بِهِ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}، قَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، هَمَّ بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَالُ لَهُ: " الْأَسْوَدُ ". وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي هَمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَكَانَ هَمُّهُ الَّذِي لَمْ يَنَلْهُ، قَوْلُهُ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ: 8]، مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمُنَافِقَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ، كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ بِأَنْ قُتِلَ لَهُ مَوْلًى، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ دِيَتَهُ. فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا نَقَمُوا)، يَقُولُ: مَا أَنْكَرُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، {إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: « {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}، وَكَانَ الْجُلَاسُ قُتِلَ لَهُ مَوْلًى، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَتِهِ، فَاسْتَغْنَى، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}». قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فِي مَوْلًى لِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَفِيهِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}». حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}، قَالَ: كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ دِيَةٌ، فَأَخْرَجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ: «أَنَّ مَوْلًى لِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ قَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّيَةِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَفِيهِ أُنْزِلَتْ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}»، قَالَ عَمْرٌو: لَمْ أَسْمَعْ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ عِكْرِمَةَ يَعْنِي: الدِّيَةُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَوَقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٌ الطَّائِفِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الدِّيَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}، قَالَ: بِأَخْذِ الدِّيَة». وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِنْ يَتُبْ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِنْ قِيلِهِمُ الَّذِي قَالُوهُ فَرَجَعُوا عَنْهُ، يَكُ رُجُوعُهُمْ وَتَوْبَتُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، خَيْرًا لَهُمْ مِنَ النِّفَاقِ {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا}، يَقُولُ: وَإِنْ يُدْبِرُوا عَنِ التَّوْبَةِ، فَيَأْتُوهَا وَيُصِرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ، {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا}، يَقُولُ: يُعَذِّبْهُمْ عَذَابًا مُوجِعًا فِي الدُّنْيَا، إِمَّا بِالْقَتْلِ، وَإِمَّا بِعَاجِلِ خِزْيٍ لَهُمْ فِيهَا، وَيُعَذِّبْهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، يَقُولُ: وَمَا لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ إِنْ عَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَاجَلَ الدُّنْيَا (مِنْ وَلِيٍّ)، يُوَالِيهِ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ (وَلَا نَصِيرٍ) يَنْصُرُهُ مِنَ اللَّهِ فَيُنْقِذُهُ مِنْ عِقَابِهِ. وَقَدْ كَانُوا أَهْلَ عِزٍّ وَمَنَعَةٍ بِعَشَائِرِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، يَمْتَنِعُونَ بِهِمْ مَنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَمْنَعُونَهُمْ مِمَّنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ مِنْ عَشَائِرِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ، لَا يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَلَا يَنْصُرُونَهُمْ مِنْهُ، إِنِ احْتَاجُوا إِلَى نَصْرِهِمْ. وَذِكْرُ أَنَّ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ تَابَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: « {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}، قَالَ: قَالَ الْجُلَاسُ: قَدِ اسْتَثْنَى اللَّهُ لِي التَّوْبَةَ، فَأَنَا أَتُوبُ. فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} الْآيَةَ، فَقَالَ الْجُلَاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرَى اللَّهَ قَدِ اسْتَثْنَى لِي التَّوْبَةَ، فَأَنَا أَتُوبُ! فَتَابَ، فَقَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمٍ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَتْ لَكَ، يَا مُحَمَّدُ، صِفَتَهُمْ {مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}، يَقُولُ: أَعْطَى اللَّهُ عَهْدًا {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ}، يَقُولُ: لَئِنْ أَعْطَانَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهُ، وَرَزَقَنَا مَالَا وَوَسَّعَ عَلَيْنَا مِنْ عِنْدِهِ (لَنَصَّدَّقَنَّ)، يَقُولُ: لَنُخْرِجَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي رَزَقَنَا رَبُّنَا {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}، يَقُولُ: وَلَنَعْمَلَنَّ فِيهَا بِعَمَلِ أَهْلِ الصَّلَاحِ بِأَمْوَالِهِمْ، مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ بِهِ، وَإِنْفَاقِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: فَرَزَقَهُمُ اللَّهُ وَأَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ {فَلَمَّا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ}، بِفَضْلِ اللَّهِ الَّذِي آتَاهُمْ، فَلَمْ يَصَّدَّقُوا مِنْهُ، وَلَمْ يَصِلُوا مِنْهُ قَرَابَةً، وَلَمْ يُنْفِقُوا مِنْهُ فِي حَقِّ اللَّهِ (وَتَوَلَّوْا)، يَقُولُ: وَأَدْبَرُوا عَنْ عَهْدِهِمُ الَّذِي عَاهَدُوهُ اللَّهَ (وَهُمْ مُعْرِضُونَ)، عَنْهُ (فَأَعْقَبَهُمْ) اللَّهُ {نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ}، بِبُخْلِهِمْ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فِيمَا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِخْلَافِهِمُ الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدُوا اللَّهَ، وَنَقْضِهِمْ عَهْدَهُ فِي قُلُوبِهِمْ {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ}، مِنَ الصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، فِي قَيْلِهِمْ، وَحَرَمَهُمُ التَّوْبَةَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اشْتَرَطَ فِي نِفَاقِهِمْ أَنَّهُ أَعْقَبَهُمُوهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ مَمَاتِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: "ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِب" مِنَ الْأَنْصَارِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: "ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِب" مِنَ الْأَنْصَارِ، أَتَى مَجْلِسًا فَأَشْهَدَهُمْ فَقَالَ: لَئِنْ آتَانِي اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، آتَيْتُ مِنْهُ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَتَصَدَّقْتُ مِنْهُ، وَوَصَلْتُ مِنْهُ الْقَرَابَةَ! فَابْتَلَاهُ اللَّهُ فَآتَاهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَأَخْلَفَ اللَّهُ مَا وَعَدَهُ، وَأَغْضَبَ اللَّهَ بِمَا أَخْلَفَ مَا وَعَدَهُ. فَقَصَّ اللَّهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ: (يَكْذِبُونَ). حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعَانُ بْنُ رَفَاعَةَ السُّلَمِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْإِلْهَانِيِّ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيَحُكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ! قَالَ: ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيِّ اللَّهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ شِئْتُ أَنْ تَسِيرَ مَعِي الْجِبَالُ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَسَارَتْ! قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَرَزَقَنِي مَالًا لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالًا! قَالَ: فَاتَّخَذَ غَنَمًا، فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ، فَتَنَحَّى عَنْهَا، فَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا، حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي جَمَاعَةٍ، وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُمَا. ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ، فَتَنَحَّى حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الْجُمُعَةَ، وَهِيَ تَنْمُو كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَةَ. فَطَفِقَ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، يَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا فَعَلَ ثَعْلَبَةُ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّخَذَ غَنَمًا فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ! فَأَخْبَرُوهُ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ! يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ! يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ! قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 103] الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَةِ، رَجُلًا مِنَ جُهَيْنَةَ، وَرَجُلًا مِنْ سَلِيمٍ، وَكَتَبَ لَهُمَا كَيْفَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ لَهُمَا: مُرَّا بِثَعْلَبَةَ، وَبِفُلَانٍ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَخُذَا صَدَقَاتِهِمَا! فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ، وَأَقْرَآهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ! مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ! مَا أَدْرِي مَا هَذَا! انْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا ثُمَّ عُودَا إِلَيَّ. فَانْطَلَقَا، وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ فَنَظَرَ إِلَى خِيَارِ أَسْنَانِ إِبِلِهِ، فَعَزَلَهَا لِلصَّدَقَةِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُمْ بِهَا. فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: مَا يَجِبُ عَلَيْكَ هَذَا، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نَأْخُذَ هَذَا مِنْكَ. قَالَ: بَلَى، فَخُذُوهُ، فَإِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةً، وَإِنَّمَا هِيَ لِي! فَأَخَذُوهَا مِنْهُ. فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ صَدَقَاتِهِمَا رَجَعَا، حَتَّى مَرَّا بِثَعْلَبَةَ فَقَالَ: أَرُونِي كِتَابَكُمَا! فَنَظَرَ فِيهِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ! انْطَلِقَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي. فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُمَا قَالَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ! قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا، وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِالْبِرْكَةِ، فَأَخْبَرَاهُ بِالَّذِي صَنَعَ ثَعْلَبَةُ وَالَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهُ، فَقَالَ: وَيَحُكَ يَا ثَعْلَبَةُ! قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ كَذَا وَكَذَا! فَخَرَجَ ثَعْلَبَةُ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ صَدَقَتَهُ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ! فَجَعَلَ يَحْثِي عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عَمَلُكَ، قَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تَطْعَنِي! فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَقْبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا. ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ حِينَ اسْتُخْلِفَ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ مَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَوْضِعِي مِنَ الْأَنْصَارِ، فَاقْبَلْ صَدَقَتِي! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَقْبَلُهَا! فَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَقْبِضْهَا. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ أَتَاهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْبَلْ صَدَقَتِي! فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ! فَقُبِضَ وَلَمْ يَقْبَلْهَا، ثُمَّ وَلِيَ عُثْمَانُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ! فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ. وَهَلَكَ ثَعْلَبَةُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى عَلَى مَجْلِسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَئِنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا لِيُؤَدِّيَنَّ إِلَى كُلِّ ذِي حَقِّ حَقَّهِ! فَآتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَصَنَعَ فِيهِ مَا تَسْمَعُونَ، قَالَ: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا جَاءَ بِالتَّوْرَاةِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّ التَّوْرَاةَ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّا لَا نَفْرُغُ لَهَا، فَسَلْ لَنَا رَبَّكَ جِمَاعًا مِنَ الْأَمْرِ نُحَافِظُ عَلَيْهِ، وَنَتَفَرَّغُ فِيهِ لِمَعَاشِنَا! قَالَ: يَا قَوْمِ، مَهْلًا مَهْلًا! هَذَا كِتَابُ اللَّهِ، وَنُورُ اللَّهِ، وَعِصْمَةُ اللَّهِ! قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ، فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ، قَالَهَا ثَلَاثًا. قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ: يَا رَبِّ، يَقُولُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ. قَالَ: فَإِنِّي آمِرُهُمْ بِثَلَاثٍ إِنْ حَافَظُوا عَلَيْهِنَّ دَخَلُوا بِهِنَّ الْجَنَّةَ، أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ فَلَا يَظْلِمُوا فِيهَا، وَلَا يُدْخِلُوا أَبْصَارَهُمُ الْبُيُوتَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُمْ، وَأَنْ لَا يَطْعَمُوا طَعَامًا حَتَّى يَتَوَضَّئُوا وُضُوْءَ الصَّلَاةِ. قَالَ: فَرَجَعَ بِهِنَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِ، فَفَرِحُوا، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ سَيَقُومُونَ بِهِنَّ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ الْقَوْمُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى جَنَحُوا وَانْقَطَعَ بِهِمْ. فَلَمَّا حَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: تَكَفَّلُوا لِي بِسِتٍّ، أَتَكَفَّلُ لَكُمْ بِالْجَنَّةِ! قَالُوا: مَا هُنَّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُمْ فَلَا تَكْذِبُوا، وَإِذَا وَعَدْتُمْ فَلَا تُخْلِفُوا، وَإِذَا اؤْتُمِنْتُمْ فَلَا تَخُونُوا، وَكُفُّوا أَبْصَارَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَفُرُوجَكُمْ: أَبْصَارَكُمْ عَنِ الْخِيَانَةِ، وَأَيْدِيَكُمْ عَنِ السَّرِقَةِ، وَفُرُوجَكُمْ عَنِ الزِّنَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «ثَلَاثٌ مِنْ كُنْ فِيهِ صَارَ مُنَافِقًا وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَف». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَعْنِيُّ بِذَلِكَ: رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا ثَعْلَبَةُ، وَالْآخَرُ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ، وَكَانَ الَّذِي عَاهَدَ اللَّهَ مِنْهُمْ: ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ وَمُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ، وَهُمَا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ}، قَالَ رَجُلَانِ خَرَجَا عَلَى مَلَأٍ قُعُودٍ فَقَالَا: وَاللَّهِ لَئِنْ رَزَقَنَا اللَّهُ لَنَصَّدَّقَنَّ! فَلَمَّا رَزَقَهُمْ بَخِلُوا بِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبَى نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ}، رَجُلَانِ خَرَجَا عَلَى مَلَأٍ قُعُودٍ فَقَالَا: وَاللَّهِ لَئِنْ رَزَقَنَا اللَّهُ لَنَصَّدَّقَنَّ! فَلَمَّا رَزَقَهُمْ بَخِلُوا بِهِ، {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ}، حِينَ قَالُوا: "لَنَصَّدَّقَن" فَلَمْ يَفْعَلُوا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ، قَالَ: هَؤُلَاءِ صِنْفٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمْ ذَلِكَ بَخِلُوا بِهِ، فَلَمَّا بَخِلُوا بِذَلِكَ أَعْقَبَهُمْ بِذَلِكَ نِفَاقًا إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، لَيْسَ لَهُمْ مِنْهُ تَوْبَةٌ وَلَا مَغْفِرَةٌ وَلَا عَفْوٌ، كَمَا أَصَابَ إِبْلِيسَ حِينَ مَنَعَهُ التَّوْبَةَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ، الْإِبَانَةُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ عَلَامَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ، أَعْنِي فِي قَوْلِهِ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمٍ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. وَبِنَحْوِ هَذَا الْقَوْلِ كَانَ يَقُولُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، وَرُوِيَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عِمَارَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: اعْتَبِرُوا الْمُنَافِقَ بِثَلَاثٍ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ}، إِلَى قَوْلِهِ: (يَكْذِبُونَ). حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ صُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ. قَالَ: وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}، إِلَى آخَرِ الْآيَة». حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: سَمِعْتُ صُبَيْحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيَّ يَقُولُ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنِ الْمُنَافِقِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُعَمَّرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الْمُنَافِقَ يُعْرَفُ بِثَلَاثٍ: بِالْكَذِبِ، وَالْإِخْلَافِ، وَالْخِيَانَةِ، فَالْتَمَسْتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ زَمَانًا لَا أَجِدُهَا، ثُمَّ وَجَدْتُهَا فِي اثْنَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} حَتَّى بَلَغَ: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 72]، هَذِهِ الْآيَةُ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ الْمُحْرِمُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، فَقُلْتُ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ لَئِنْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَيَّ دَيْنٌ فَلَقِيَنِي فَتَقَاضَانِي، وَلَيْسَ عِنْدِي، وَخِفْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي وَيُهْلِكَنِي، فَوَعَدْتُهُ أَنْ أَقْضِيَهُ رَأْسَ الْهِلَالِ، فَلَمْ أَفْعَلْ، أَمُنَافِقٌ أَنَا؟ قَالَ: هَكَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ! ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ أَبَاهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ: زَوِّجُوا فُلَانًا، فَإِنِّي وَعَدْتُهُ أَنْ أُزَوِّجَهُ، لَا أَلْقَى اللَّهَ بِثُلُثِ النِّفَاقِ! قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ وَيَكُونُ ثُلُثُ الرَّجُلِ مُنَافِقًا، وَثُلْثَاهُ مُؤْمِنٌ؟ قَالَ: هَكَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ. قَالَ: فَحَجَجْتُ فَلَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَأَخْبَرْتُهُ الْحَدِيثَ الَّذِي سَمِعْتُهُ مِنَ الْحَسَنِ، وَبِالَّذِي قُلْتُ لَهُ وَقَالَ لِي، فَقَالَ لِي: أَعَجَزْتَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَلَمْ يَعِدُوا أَبَاهُمْ فَأَخْلَفُوهُ، وَحَدَّثُوهُ فَكَذَبُوهُ، وَائْتَمَنَهُمْ فَخَانُوهُ، أَفَمُنَافِقِينَ كَانُوا؟ أَلَمْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ؟ أَبُوهُمْ نَبِيٌّ، وَجَدُّهُمْ نَبِيٌّ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لِعَطَاءٍ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ حَدِّثْنِي بِأَصْلِ النِّفَاقِ، وَبِأَصْلِ هَذَا الْحَدِيثِ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً، الَّذِينَ حَدَّثُوا النَّبِيَّ فَكَذَّبُوهُ، وَائْتَمَنَهُمْ عَلَى سِرِّهِ فَخَانُوهُ، وَوَعَدُوهُ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فِي الْغَزْوِ فَأَخْلَفُوهُ. قَالَ: وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَكَّةَ، فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَاخْرُجُوا إِلَيْهِ، وَاكْتُمُوا. قَالَ: فَكَتَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَيْهِ " " إِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُكُمْ، فَخُذُوا حَذَرَكُمْ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 27]، وَأَنْزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ}، إِلَى: {فَأَعْقُبُهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}»، فَإِذَا لَقِيتَ الْحَسَنَ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُ بِأَصْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبِمَا قُلْتُ لَكَ. قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَى الْحَسَنِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّ أَخَاكَ عَطَاءً يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَ، وَمَا قَالَ لِي، فَأَخَذَ الْحَسَنُ بِيَدِي فَأَشَالَهَا، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، أَعَجِزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ هَذَا؟ سَمِعَ مِنِّي حَدِيثًا فَلَمْ يَقْبَلْهُ حَتَّى اسْتَنْبَطَ أَصْلَهُ، صَدَقَ عَطَاءٌ، هَكَذَا الْحَدِيثُ، وَهَذَا فِي الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَهُوَ مُنَافِقٌ. فَقِيلَ لَهُ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَان». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَشِّرٌ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ هَارُونَ بْنِ رَبَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ وَائِلٍ: أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا خَطَبَ إِلَيَّ ابْنَتِي، وَإِنِّي كُنْتُ قُلْتُ لَهُ فِيهَا قَوْلًا شَبِيهًا بِالْعِدَّةِ، وَاللَّهِ لَا أَلْقَى اللَّهَ بِثُلُثِ النِّفَاقِ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهَ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ الْعَهْدُ الَّذِي عَاهَدَ اللَّهَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، شَيْئًا نَوَوْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: سَمِعْتُ مُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ يَقُولُ: رَكِبْتُ الْبَحْرَ، فَأَصَابَنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَنَذَرَ قَوْمٌ مِنَّا نُذُورًا، وَنَوَيْتُ أَنَا، لَمْ أَتَكَلَّمْ بِهِ. فَلَمَّا قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ سَأَلْتُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، فِ بِهِ. قَالَ مُعْتَمِرٌ: وَحَدَّثَنَا كَهَمْسٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ نَوَوْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}؟
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ سِرًّا، وَيُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِمَا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِمَا جَهْرًا {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ}، الَّذِي يُسِرُّونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ (وَنَجْوَاهُمْ)، يَقُولُ: "وَنَجْوَاهُم" إِذَا تَنَاجَوْا بَيْنَهُمْ بِالطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَذِكْرِهِمْ بِغَيْرِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرُوا بِهِ، فَيَحْذَرُوا مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ أَنْ يُحِلَّهَا بِهِمْ، وَسَطْوَتَهُ أَنْ يُوقِعَهَا بِهِمْ، عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَعَيْبِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَيَنْزِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيَتُوبُوا مِنْهُ {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، يَقُولُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ مَا غَابَ عَنْ أَسْمَاعِ خَلْقِهِ وَأَبْصَارِهِمْ وَحَوَاسِّهِمْ، مِمَّا أَكَنَّتْهُ نُفُوسُهُمْ، فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى جَوَارِحِهِمُ الظَّاهِرَةِ، فَيَنْهَاهُمْ ذَلِكَ عَنْ خِدَاعِ أَوْلِيَائِهِ بِالنِّفَاقِ وَالْكَذِبِ، وَيَزْجُرُهُمْ عَنْ إِضْمَارِ غَيْرِ مَا يُبْدُونَهُ، وَإِظْهَارِ خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ؟
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِوَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ، بِمَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَيَطْعَنُونَ فِيهَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ: "إِنَّمَا تَصَدَّقُوا بِهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَلَمْ يُرِيدُوا وَجْهَ اللَّه" وَيَلْمِزُونَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ إِلَّا جُهْدَهُمْ، وَذَلِكَ طَاقَتُهُمْ، فَيَنْتَقِصُونَهُمْ وَيَقُولُونَ: "لَقَدْ كَانَ اللَّهُ عَنْ صَدَقَةِ هَؤُلَاءِ غَنِيًّا!" سُخْرِيَةً مِنْهُمْ بِهِمْ {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}. وَقَدْ بَيَّنَّا صِفَةَ "سُخْرِيَةِ اللَّه" بِمَنْ يَسْخَرُ بِهِ مَنْ خَلْقِهُ، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، يَقُولُ: وَلَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابٌ مُوجِعٌ مُؤْلِمٌ. وَذُكِرَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِقَوْلِهِ: {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ وَأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أَبُو عَقِيلٍ الْأَرَاشِيُّ، أَخُو بَنِي أَنِيفٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: وَاللَّهِ مَا جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا رِيَاءً! وَقَالُوا: إِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَغَنِيَّيْنِ عَنْ هَذَا الصَّاعِ! حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «قَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ يَوْمًا فَنَادَى فِيهِمْ: أَنْ أَجْمِعُوا صَدَقَاتِكُمْ! فَجَمَعَ النَّاسُ صَدَقَاتِهِمْ. ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ آخِرِهِمْ بِمَنٍّ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ، بِتُّ لَيْلَتِي أَجُرُّ بِالْجَرِيرِ الْمَاءَ، حَتَّى نِلْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، فَأَمْسَكْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَتَيْتُكَ بِالْآخَرِ. فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْثُرَهُ فِي الصَّدَقَاتِ. فَسَخِرَ مِنْهُ رِجَالٌ وَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْ هَذَا! وَمَا يَصْنَعَانِ بِصَاعِكَ مِنْ شَيْءٍ "! ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ بَقِيَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ؟ فَقَالَ: لَا! فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إِنَّ عِنْدِي مِائَةَ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ فِي الصَّدَقَاتِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمْجَنُونٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِي جُنُونٌ! فَقَالَ: فَعَلِّمْنَا مَا قُلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ! مَالِي ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، أَمَّا أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَأُقْرِضُهَا رَبِّي، وَأَمَّا أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَلِي! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ! وَكَرِهَ الْمُنَافِقُونَ فَقَالُوا: " وَاللَّهِ مَا أَعْطَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَطِيَّتَهُ إِلَّا رِيَاءً "! وَهُمْ كَاذِبُونَ، إِنَّمَا كَانَ بِهِ مُتَطَوِّعًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهُ وَعُذْرَ صَاحِبِهِ الْمِسْكِينِ الَّذِي جَاءَ بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ، فَقَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الْآيَةَ». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ شِبْلٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِصَدَقَةِ مَالِهِ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَلَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: "رَاءَى" {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}، قَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ آجِرَ نَفْسَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ، فَجَاءَ بِهِ فَلَمَزُوهُ، وَقَالُوا: كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا عَنْ صَاعِ هَذَا! حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ، قَالَ: أَقْبَلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، فَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ، فَلَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ فَقَالُوا: مَا أَعْطَى ذَلِكَ إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً! فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ "حِبْحَابٌ، أَبُو عَقِيل فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِتُّ أَجُرُّ الْجَرِيرَ عَلَى صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، أَمَّا صَاعٌ فَأَمْسَكْتُهُ لِأَهْلِي، وَأَمَّا صَاعٌ فَهَا هُوَ ذَا! فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: " وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْ هَذَا ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}، قَالَ: تَصَدَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِشَطْرِ مَالِهِ، وَكَانَ مَالُهُ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَتَصَدَّقَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ لِعَظِيمُ الرِّيَاءِ! فَقَالَ اللَّهُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} وَكَانَ لِرَجُلٍ صَاعَانِ مِنْ تَمْرٍ، فَجَاءَ بِأَحَدِهِمَا، فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: إِنْ كَانَ اللَّهُ عَنْ صَاعِ هَذَا لَغَنِيًّا! فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَطْعَنُونَ عَلَيْهِمْ وَيَسْخَرُونَ بِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمُنْهَالِ الْأَنْمَاطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِوَانَةَ عَنْ [عُمَرَ بْنِ] أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تُصَدَّقُوا، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِي أَرْبَعَةَ آلَافٍ، أَلْفَيْنِ أُقْرِضُهُمَا اللَّهَ، وَأَلْفَيْنِ لِعَيَّالِي. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ! فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَإِنَّ عِنْدِي صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، صَاعًا لِرَبِّي، وَصَاعًا لِعِيَالِي! قَالَ: فَلَمَزَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا أَعْطَى ابْنُ عَوْفٍ هَذَا إِلَّا رِيَاءً! وَقَالُوا: أَوَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ غَنِيًّا عَنْ صَاعِ هَذَا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، إِلَى آخَرِ الْآيَة». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، «عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}، قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَصَدَّقُوا، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِأَرْبَعِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِيمَا أَمْسَكَ. فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا فَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً! قَالَ: وَجَاءَ رَجُلٌ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آجَرْتُ نَفْسِي بِصَاعَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ بِصَاعٍ مِنْهُمَا إِلَى أَهْلِي، وَجِئْتُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ. فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: « {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الْآيَةَ، وَكَانَ الْمُطَّوِّعُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ وَعَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ أَخَا بَنِي الْعَجْلَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَ فِي الصَّدَقَةِ، وَحَضَّ عَلَيْهَا، فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَتَصَدَّقَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقَامَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، فَلَمَزُوهُمَا وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا رِيَاءٌ! وَكَانَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِجُهْدِهِ: أَبُو عَقِيلٍ، أَخُو بَنِي أَنِيفٍ، الْأَرَاشِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أَتَى بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَأَفْرَغَهُ فِي الصَّدَقَةِ، فَتَضَاحَكُوا بِهِ وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ أَبِي عَقِيلٍ!». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ قَالَ أَبُو النُّعْمَانِ: كُنَّا نَعْمَلُ قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ. قَالَ: وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعِ تَمْرٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا! فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حَبَّابٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَقِيلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بِتُّ أَجُرُّ الْجَرِيرَ عَلَى ظَهْرِي عَلَى صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ فَانْقَلَبْتُ بِأَحَدِهِمَا إِلَى أَهْلِي يَتَبَلَّغُونَ بِهِ، وَجِئْتُ بِالْآخَرِ أَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: انْثُرْهُ فِي الصَّدَقَةِ. فَسَخِرَ الْمُنَافِقُونَ مِنْهُ. وَقَالُوا: لَقَدْ كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا عَنْ صَدَقَةِ هَذَا الْمِسْكِينِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}، الْآيَتَيْنِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي السَّلِيلِ قَالَ: وَقَفَ عَلَى الْحَيِّ رَجُلٌ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَوْ عَمِّي فَقَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ يَتَصَدَّقُ الْيَوْمَ بِصَدَقَةٍ أَشْهَدُ لَهُ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: وَعَلَيَّ عِمَامَةٌ لِي. قَالَ: فَنَزَعْتُ لَوْثًا أَوْ لَوْثَيْنِ لِأَتَصَدَّقَ بِهِمَا، قَالَ: ثُمَّ أَدْرَكَنِي مَا يُدْرِكُ ابْنَ آدَمَ، فَعَصَبْتُ بِهَا رَأْسِي. قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ لَا أَرَى بِالْبَقِيعِ رَجُلًا أَقْصَرَ قِمَّةً، وَلَا أَشَدَّ سَوَادًا، وَلَا أَدَمَّ بِعَيْنٍ مِنْهُ، يَقُودُ نَاقَةً لَا أَرَى بِالْبَقِيعِ أَحْسَنَ مِنْهَا وَلَا أَجْمَلَ مِنْهَا. قَالَ: أَصَدَقَةٌ هِيَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَدُونَكَهَا! فَأَلْقَى بِخِطَامِهَا أَوْ بِزِمَامِهَا قَالَ: فَلَمَزَهُ رَجُلٌ جَالِسٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا، وَلَهِيَ خَيْرٌ مِنْهُ! فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَمِنْهَا! يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ: الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ فَلَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ: " أَبُو خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَجَاءٍ أَبُو سَهْلٍ الْعَبَادَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ يَسَافٍ الْيَمَامِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْيَمَامِيِّ قَالَ: «جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، جِئْتُكَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَاجْعَلْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمْسَكْتُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ لِعَيَالِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ! وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِتُّ اللَّيْلَةَ أَجُرُّ الْمَاءَ عَلَى صَاعَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَتَرَكْتُ لِعِيَالِي وَأَمَّا الْآخَرُ فَجِئْتُكَ بِهِ، أَجْعَلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ! فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: وَاللَّهِ مَا أَعْطَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَلَقَدْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ غَنِيَّيْنِ عَنْ صَاعِ فُلَانٍ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}، يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}، يَعْنِي صَاحِبَ الصَّاعِ {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْمَعُوا صَدَقَاتِهِمْ، وَإِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَدْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَقَالَ: هَذَا مَالِي أُقْرِضُهُ اللَّهَ، وَقَدْ بَقِيَ لِي مِثْلُهُ. فَقَالَ لَهُ: بُورِكَ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ! فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَعْطَى إِلَّا رِيَاءً، وَمَا أَعْطَى صَاحِبُ الصَّاعِ إِلَّا رِيَاءً، إِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَغَنِيَّيْنِ عَنْ هَذَا! وَمَا يَصْنَعُ اللَّهُ بِصَاعٍ مِنْ شَيْءٍ!» حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَصَدَّقُوا، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَأَلْفَى ذَلِكَ مَالِي وَافِرًا، فَآخُذُ نِصْفَهُ. قَالَ: فَجِئْتُ أَحْمِلُ مَالًا كَثِيرًا. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: تُرَائِي يَا عُمَرُ! فَقَالَ: نَعَمْ، أُرَائِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَلَا! قَالَ: وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَوَاجَرَ نَفْسَهُ لِيَجُرَّ الْجَرِيرَ عَلَى رَقَبَتِهِ بِصَاعَيْنِ لَيْلَتَهُ، فَتَرَكَ صَاعًا لِعِيَالِهِ، وَجَاءَ بِصَاعٍ يَحْمِلُهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ عَنْ صَاعِكَ لَغَنِيَّانِ! فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}، هَذَا الْأَنْصَارِيُّ {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "اللَّمْز" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِشَوَاهِدِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ اللُّغَةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {الْمُطَّوِّعِينَ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: الْمُتَطَوِّعِينَ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، فَصَارَتْ طَاءً مُشَدَّدَةً، كَمَا قِيلَ: {وَمَنْ يَطَّوَّعْ خَيْرًا} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 158]، يَعْنِي: يَتَطَوَّعُ. وَأَمَّا "الْجُهْد" فَإِنَّ لِلْعَرَبِ فِيهِ لُغَتَيْنِ. يُقَالُ: "أَعْطَانِي مِنْ جُهْدِه" بِضَمِّ الْجِيمِ، وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَ، لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمِنْ "جَهْدِه" بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَذَلِكَ لُغَةُ نَجْدٍ. وَعَلَى الضَّمِّ قِرَاءَةُ الْأَمْصَارِ، وَذَلِكَ هُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ رُوَاةِ الشِّعْرِ وَأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مَفْتُوحَةٌ وَمَضْمُومَةٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ اللُّغَةِ فِيهِ، كَمَا اخْتَلَفَتْ لُغَاتُهُمْ فِي "الْوَجْد" " وَالْوُجْدِ "بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، مِنْ: " وَجَدْتُ ". وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "الْجَهْد" وَ" الْجُهْدُ " الْجَهْدُ فِي الْعَمَلِ، وَالْجُهْدُ فِي الْقُوتِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، مِثْلَهُ. قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْجَهْدُ فِي الْعَمَلِ، وَالْجُهْدُ فِي الْقِيتَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْإِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ اللَّهَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَاتِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْمَغْفِرَةِ، أَوْ لَا تَدْعُ لَهُمْ بِهَا. وَهَذَا كَلَامٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، وَتَأْوِيلُهُ الْخَبَرُ، وَمَعْنَاهُ: إِنِ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، أَوْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، يَقُولُ: إِنْ تَسْأَلْ لَهُمْ أَنْ تُسْتَرَ عَلَيْهِمْ ذُنُوبُهُمْ بِالْعَفْوِ مِنْهُ لَهُمْ عَنْهَا، وَتَرْكِ فَضِيحَتِهِمْ بِهَا، فَلَنْ يَسْتُرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَنْ يَعْفُوَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ يَفْضَحُهُمْ بِهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: هَذَا الْفِعْلُ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ، وَهُوَ تَرْكُ عَفْوِهِ لَهُمْ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ جَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ وَرِسَالَةَ رَسُولِهِ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، مَنْ آثَرَ الْكُفْرَ بِهِ وَالْخُرُوجَ عَنْ طَاعَتِهِ، عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ. وَيُرْوَى «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: "لَأَزِيدَنَّ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ عَلَى سَبْعِينَ مَرَّة" رَجَاءً مِنْهُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، فَنَزَلَتْ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ: 6]». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَوْلَا أَنَّكُمْ تُنْفِقُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ! وَهُوَ الْقَائِلُ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ: 8]، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، فَأَبَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُم». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ شِبَاكٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: دَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِنَازَةِ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: حُبَابُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ إِنَّ "الْحُبَاب" هُوَ الشَّيْطَانُ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّهُ قَدْ قِيلَ لِي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ لَهُمْ سَبْعِينَ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِينَ، وَأَلْبَسَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ وَهُوَ عَرِقٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ «عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً}، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ اسْتِغْفَارَةً! فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ: {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، عَزْمًا». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «لَمَّا ثَقُلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ انْطَلَقَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَبِي قَدِ احْتُضِرَ، فَأُحِبُّ أَنْ تُشْهِدَهُ وَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: الْحُبَابُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: بَلْ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، إِنَّ "الْحُبَاب" اسْمُ شَيْطَانٍ. قَالَ: فَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى شَهِدَهُ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ وَهُوَ عَرِقٌ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، وَلَأَسْتَغْفِرَنَّ لَهُ سَبْعِينَ وَسَبْعِينَ!» قَالَ هُشَيْمٌ: وَأَشُكُّ فِي الثَّالِثَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: أَسْمَعُ رَبِّي قَدْ رَخَّصَ لِي فِيهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ! فَقَالَ اللَّهُ، مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ: 6]. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ «عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: قَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي، فَلَأَزِيدَنَّهُمْ عَلَى سَبْعِينَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الْآيَةَ». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ «عَنْ قَتَادَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَزِيدَنَّ عَلَى سَبْعِينَ! فَقَالَ اللَّهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِوَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَرِحَ الَّذِينَ خَلَّفَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْغَزْوِ مَعَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ {بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ}، يَقُولُ: بِجُلُوسِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ {خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ}، يَقُولُ: عَلَى الْخِلَافِ لِرَسُولِ اللَّهِ فِي جُلُوسِهِ وَمَقْعَدِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالنَّفْرِ إِلَى جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَخَالَفُوا أَمْرَهُ وَجَلَسُوا فِي مَنَازِلِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {خِلَافَ}، مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "خَالَفَ فُلَانٌ فُلَانًا فَهُوَ يُخَالِفُهُ خِلَافًا" فَلِذَلِكَ جَاءَ مَصْدَرُهُ عَلَى تَقْدِيرِ "فِعَال" كَمَا يُقَالُ: "قَاتَلَهُ فَهُوَ يُقَاتِلُهُ قِتَالًا" وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا مِنْ "خَلَفَه" لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ: "بِمَقْعَدِهِمْ خَلْفَ رَسُولِ اللَّه" لِأَنَّ مَصْدَرَ: "خَلَفَه" " خَلْفٌ "لَا" خِلَافَ "وَلَكِنَّهُ عَلَى مَا بَيَّنْتُ مِنْ أَنَّهُ مَصْدَرُ: " خَالَفَ " فَقُرِئَ: {خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ}، وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ، وَهِيَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا. وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِمَعْنَى: "بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم" وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: عَقَبَ الرَّبِيعُ خِلَافَهُمْ فَكَأَنَّمَا *** بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا وَذَلِكَ قَرِيبٌ لِمَعْنَى مَا قُلْنَا، لِأَنَّهُمْ قَعَدُوا بَعْدَهُ عَلَى الْخِلَافِ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَرِهَ هَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفُونَ أَنْ يَغْزُوَا الْكَفَّارَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، يَعْنِي: فِي دِينِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ لِيَنْصُرُوهُ، مَيْلًا إِلَى الدَّعَةِ وَالْخَفْضِ، وَإِيثَارًا لِلرَّاحَةِ عَلَى التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَشُحًّا بِالْمَالِ أَنْ يُنْفِقُوهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: " {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} " فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ) لَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ (نَارُ جَهَنَّمَ)، الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَعَصَى رَسُولَهُ (أَشَدُّ حَرًّا)، مِنْ هَذَا الْحَرِّ الَّذِي تَتَوَاصَوْنَ بَيْنَكُمْ أَنْ لَا تَنْفِرُوا فِيهِ. يَقُولُ: الَّذِي هُوَ أَشَدُّ حَرًّا، أَحْرَى أَنْ يُحْذَرَ وَيُتَّقَى مِنَ الَّذِي هُوَ أَقَلُّهُمَا أَذًى (لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)، يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يَفْقَهُونَ عَنِ اللَّهِ وَعْظَهُ، وَيَتَدَبَّرُونَ آيَ كِتَابِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ عَنِ اللَّهِ، فَهُمْ يَحْذَرُونَ مِنَ الْحَرِّ أَقَلَّهُ مَكْرُوهًا وَأَخَفَّهُ أَذًى، وَيُوَاقِعُونَ أَشَدَّهُ مَكْرُوهًا وَأَعْظَمَهُ عَلَى مَنْ يَصْلَاهُ بَلَاءً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «قَوْلُهُ: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ}، إِلَى قَوْلِهِ: (يَفْقَهُونَ)، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَنْبَعِثُوا مَعَهُ، وَذَلِكَ فِي الصَّيْفِ، فَقَالَ رِجَالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحُرُّ شَدِيدٌ، وَلَا نَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، فَلَا تَنْفِرْ فِي الْحَرِّ! فَقَالَ اللَّهُ: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالْخُرُوج». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ}، قَالَ: هِيَ غَزْوَةَ تَبُوكَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِهِ قَالُوا: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ بَنِي سَلَمَةَ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ} الْآيَةَ». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: [ثُمَّ] ذَكَرَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِهَادِ، وَأَجْمَعَ السَّيْرَ إِلَى تَبُوكَ، عَلَى شِدَّةِ الْحُرِّ وَجَدْبِ الْبِلَادِ. يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَرِحَ هَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ، فَلْيَضْحَكُوا فَرِحِينَ قَلِيلًا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَلَهْوِهِمْ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ سَيَبْكُونَ طَوِيلًا فِي جَهَنَّمَ مَكَانَ ضَحِكِهِمُ الْقَلِيلِ فِي الدُّنْيَا (جَزَاءً)، يَقُولُ: ثَوَابًا مِنَّا لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ، بِتَرْكِهِمُ النَّفْرَ إِذِ اسْتُنْفِرُوا إِلَى عَدُوِّهِمْ، وَقُعُودِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، يَقُولُ: بِمَا كَانُوا يَجْتَرِحُونَ مِنَ الذُّنُوبِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، قَالَ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الدُّنْيَا قَلِيلٌ، فَلْيَضْحَكُوا فِيهَا مَا شَاءُوا، فَإِذَا صَارُوا إِلَى الْآخِرَةِ بَكَوْا بُكَاءً لَا يَنْقَطِعُ. فَذَلِكَ الْكَثِيرُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَثِيمٍ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}، قَالَ: فِي الدُّنْيَا {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، قَالَ: فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَيَحْيَى قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمِيعٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، قَالَ: فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، قَالَ: لِيَضْحَكُوا فِي الدُّنْيَا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا فِي النَّارِ كَثِيرًا. وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}، [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 16]، قَالَ: إِلَى آجَالِهِمْ، أَحَدُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ رَفَعَهُ إِلَى رَبِيعِ بْنِ خَثِيمٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}، قَالَ: لِيَضْحَكُوا قَلِيلًا فِي الدُّنْيَا {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، فِي الْآخِرَةِ، فِي نَارِ جَهَنَّمَ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ «عَنْ قَتَادَةَ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}: أَيْ فِي الدُّنْيَا {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}: أَيْ فِي النَّارِ. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا. ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ نُودِيَ عِنْدَ ذَلِكَ، أَوْ قِيلَ لَهُ: لَا تُقَنِّطْ عِبَادِي». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَثِيمٍ {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}، قَالَ: فِي الدُّنْيَا {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، قَالَ: فِي الْآخِرَةِ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمِيعٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}، قَالَ: فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا صَارُوا إِلَى الْآخِرَةِ بَكَوْا بُكَاءً لَا يَنْقَطِعُ، فَذَلِكَ الْكَثِيرُ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا. يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}، فِي الدُّنْيَا {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، فِي النَّارِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (فَلْيَضْحَكُوا)، فِي الدُّنْيَا، (قَلِيلًا) (وَلِيَبْكُوا)، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، (كَثِيرًا). وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}، حَتَّى بَلَغَ: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، [سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ: 36].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِفَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ رَدَّكَ اللَّهُ، يَا مُحَمَّدُ، إِلَى طَائِفَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ غَزْوَتِكَ هَذِهِ {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ}، مَعَكَ فِي أُخْرَى غَيْرِهَا (فَقُلْ) لِهَمٍّ {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}، يَقُولُ: فَاقْعُدُوا مَعَ الَّذِينَ قَعَدُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّكُمْ مِنْهُمْ، فَاقْتَدَوْا بِهَدْيِهِمْ، وَاعْمَلُوا مِثْلَ الَّذِي عَمِلُوا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ سَخِطَ عَلَيْكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحُرُّ شَدِيدٌ، وَلَا نَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، فَلَا تَنْفِرْ فِي الْحَرِّ! وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ اللَّهُ: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالْخُرُوجِ. فَتَخَلَّفَ عَنْهُ رِجَالٌ، فَأَدْرَكَتْهُمْ نُفُوسُهُمْ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا صَنَعْنَا شَيْئًا! فَانْطَلَقَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ، فَلَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَتَوْهُ تَابُوا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلَكَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ لَمَّا تَابُوا، فَقَالَ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}»، [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 117]. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}، أَيْ: مَعَ النِّسَاءِ. ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، قِيلَ فِيهِمْ مَا قِيلَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}، وَ" الْخَالِفُونَ " الرِّجَالُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: (الْخَالِفِينَ)، مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. فَأَمَّا مَا قَالَ قَتَادَةُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ النِّسَاءُ، فَقَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ. لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَجْمَعُ النِّسَاءَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رِجَالٌ، بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، وَلَا بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَلَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِذَلِكَ النِّسَاءُ لَقِيلَ: "فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَوَالِف" أَوْ " مَعَ الْخَالِفَاتِ ". وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا، مِنْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ: فَاقْعُدُوا مَعَ مَرْضَى الرِّجَالِ وَأَهْلِ زَمَانَتِهِمْ، وَالضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ، وَالنِّسَاءِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي الْخَبَرِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُغَلِّبُ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ وُجِّهَ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَى: فَاقْعُدُوا مَعَ أَهْلِ الْفَسَادِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: "خَلَفَ الرَّجُلُ عَنْ أَهْلِهِ يَخْلُفُ خُلُوفًا، إِذَا فَسَدَ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: " هُوَ خَلْفَ سَوْءٍ "كَانَ مَذْهَبًا. وَأَصْلُهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى، مِنْ قَوْلِهِمْ: " خَلَفَ اللَّبَنَ يَخْلُفُ خُلُوفًا "إِذَا خَبُثَ مِنْ طُولِ وَضْعِهِ فِي السِّقَاءِ حَتَّى يَفْسُدَ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: " خَلَفَ فَمُ الصَّائِمِ " إِذَا تَغَيَّرَتْ رِيحُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِإِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا تُصَلِّ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى أَحَدٍ مَاتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْخُرُوجِ مَعَكَ أَبَدًا {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}، يَقُولُ: وَلَا تَتَوَلَّ دَفْنَهُ وَتَقْبِيرَهُ. مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "قَامَ فُلَانٌ بِأَمْرِ فُلَان" إِذَا كَفَاهُ أَمْرَهُ. {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ}، يَقُولُ: إِنَّهُمْ جَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ وَرِسَالَةَ رَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ خَارِجُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ، مُفَارِقُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ حِينَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «جَاءَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ حِينَ مَاتَ أَبُوهُ فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ حَتَّى أُكَفِّنَهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ. فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وَإِذَا فَرَغْتُمْ فَآذِنُونِي. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، [جَذَبَهُ] عُمَرُ وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ: بَلْ خَيَّرَنِي وَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}، قَالَ: فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِم». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ جَاءَ ابْنَهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ. ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ابْنَ سَلُولَ! أَتُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصْلِي عَلَيْهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا خَيَّرَنِي رَبِّي، فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ. فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ! فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}». حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، فَأَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يُكَفَّنَ فِي قَمِيصِهِ، فَكَفَّنَهُ فِي قَمِيصِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}». حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَّاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ فَأَخْذَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِثَوْبِهِ فَقَالَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَقَدْ أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَخْرَجَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَتَفَلَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، » وَاللَّهُ أَعْلَمُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ، تَحَوَّلْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي صَدْرِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْقَائِلِ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا!! أُعَدِّدُ أَيَّامَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَبَسَّمُ، حَتَّى إِذَا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، وَقَدْ قِيلَ لِي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غَفَرَ لَهُ، لَزِدْتُ! قَالَ: ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ، وَمَشَى مَعَهُ، فَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ. قَالَ: فَعَجِبْتُ لِي وَجُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}، فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ، وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَتَى ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ قَمِيصَهُ، فَأَعْطَاهُ، فَكَفَّنَ فِيهِ أَبَاه». حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} الْآيَةَ، قَالَ: بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَرِيضٌ لِيَأْتِيَهُ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ. فَأَتَاهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهْلَكَكَ حُبُّ الْيَهُودِ! قَالَ: فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ لِتُؤَنِّبَنِي، وَلَكِنْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَغْفِرَ لِي! وَسَأَلَهُ قَمِيصَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَاتَ فَكُفِّنَ فِي قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَفَثَ فِي جِلْدِهِ، وَدَلَّاهُ فِي قَبْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الْآيَةَ. قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي مِنَ اللَّهِ- أَوْ: رُبِّيَ وَصَلَّى عَلَيْهِ- وَإِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ يُسْلِمَ بِهِ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «أَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَهُوَ مَرِيضٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهْلَكَكَ حُبُّ يَهُودَ! قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَغْفِرَ لِي، وَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ لِتُؤَنِّبَنِي! ثُمَّ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَاوَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا تُعْجِبْكَ، يَا مُحَمَّدُ، أَمْوَالُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَأَوْلَادُهُمْ، فَتُصَلِّي عَلَى أَحَدِهِمْ إِذَا مَاتَ وَتَقُومُ عَلَى قَبْرِهِ، مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، فَإِنِّي إِنَّمَا أَعْطَيْتُهُ مَا أَعْطَيْتُهُ مِنْ ذَلِكَ لِأُعَذِّبَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا بِالْغُمُومِ وَالْهُمُومِ، بِمَا أُلْزِمُهُ فِيهَا مِنَ الْمُؤَنِ وَالنَّفَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَبِمَا يَنُوبُهُ فِيهَا مِنَ الرَّزَايَا وَالْمُصِيبَاتِ، {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ}، يَقُولُ: وَلِيَمُوتَ فَتَخْرُجَ نَفْسُهُ مِنْ جَسَدِهِ، فَيُفَارِقَ مَا أَعْطَيْتُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ حَسْرَةً عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَوَبَالًا عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَوَبَالًا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، بِمَوْتِهِ جَاحِدًا تَوْحِيدَ اللَّهِ، وَنُبُوَّةَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ عَنِ السُّدِّيِّ: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ}، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، بِأَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ: (آمِنُوا بِاللَّهِ)، يَقُولُ: صَدِّقُوا بِاللَّهِ {وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ}، يَقُولُ: اغْزُوَا الْمُشْرِكِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ}، يَقُولُ: اسْتَأْذَنَكَ ذَوُو الْغِنَى وَالْمَالِ مِنْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ، وَالْقُعُودِ فِي أَهْلِهِ (وَقَالُوا ذَرْنَا)، يَقُولُ: وَقَالُوا لَكَ: دَعْنَا، نَكُنْ مِمَّنْ يَقْعُدُ فِي مَنْزِلِهِ مَعَ ضُعَفَاءِ النَّاسِ وَمَرْضَاهُمْ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَكَ فِي السَّفَرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ}، قَالَ: يَعْنِي أَهْلَ الْغِنَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ}، يَعْنِي: الْأَغْنِيَاءَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ}، كَانَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ. فَنَعَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: رَضِيَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ، اسْتَأْذَنَكَ أَهْلُ الْغِنَى مِنْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ وَالْخُرُوجِ مَعَكَ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَكُونُوا فِي مَنَازِلِهِمْ، كَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَيْسَ عَلَيْهِنَّ فَرْضُ الْجِهَادِ، فَهُنَّ قُعُودٌ فِي مَنَازِلِهِنَّ وَبُيُوتِهِنَّ {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، يَقُولُ: وَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}، عَنِ اللَّهِ مَوَاعِظَهُ، فَيَتَّعِظُونَ بِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "الطَّبْع" وَكَيْفَ الْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ، فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى "الْخَوَالِف" قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}، قَالَ: "الْخَوَالِف" هُنَّ النِّسَاءُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}، يَعْنِي: النِّسَاءَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّوَيْهِ أَبُو يَزِيدَ عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ عَنْ حَفْصِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}، قَالَ: النِّسَاءُ. قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: {مَعَ الْخَوَالِفِ}، قَالَ: مَعَ النِّسَاءِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}، أَيْ: مَعَ النِّسَاءِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}، قَالَا النِّسَاءُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}، قَالَ: مَعَ النِّسَاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُوَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَمْ يُجَاهِدْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اقْتَصَصْتُ قِصَصَهُمُ الْمُشْرِكِينَ، لَكِنِ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَهُ، هُمُ الَّذِينَ جَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فَأَنْفَقُوا فِي جِهَادِهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَأَتْعَبُوا فِي قِتَالِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَبَذَلُوهَا (وَأُولَئِكَ)، يَقُولُ: وَلِلرَّسُولِ وَلِلَّذِينِ آمَنُوا مَعَهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ {الْخَيْرَاتُ}، وَهِيَ خَيْرَاتُ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ: نِسَاؤُهَا، وَجَنَّاتُهَا، وَنَعِيمُهَا. وَاحِدَتُهَا "خَيْرَة" كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَقَدْ طَعَنْتُ مَجَامِعَ الرَّبَلَاتِ *** رَبَلَاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الْمَلِكَاتِ وَ "الْخَيْرَة" مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، الْفَاضِلَةُ. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، يَقُولُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُخَلَّدُونَ فِي الْجَنَّاتِ، الْبَاقُونَ فِيهَا، الْفَائِزُونَ بِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَعَدَّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلَّذِينِ آمَنُوا مَعَهُ (جَنَّاتٍ)، وَهِيَ الْبَسَاتِينُ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ (خَالِدِينَ فِيهَا)، يَقُولُ: لَابِثِينَ فِيهَا، لَا يَمُوتُونَ فِيهَا، وَلَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، يَقُولُ: ذَلِكَ النَّجَاءُ الْعَظِيمُ، وَالْحَظُّ الْجَزِيلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْوَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَجَاءَ)، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}، فِي التَّخَلُّفِ (وَقَعَدَ)، عَنِ الْمَجِيءِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجِهَادِ مَعَهُ {الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وَقَالُوا الْكَذِبَ، وَاعْتَذَرُوا بِالْبَاطِلِ مِنْهُمْ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ جَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ وَنُبُوَّةَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، عَذَابٌ أَلِيمٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ}، وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ "الْمُعَذِّر" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِنَّمَا هُوَ: الَّذِي يُعَذِّرُ فِي الْأَمْرِ فَلَا يُبَالِغُ فِيهِ وَلَا يُحْكِمُهُ؟ وَلَيْسَتْ هَذِهِ صِفَةَ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا صِفَتُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اجْتَهَدُوا فِي طَلَبِ مَا يَنْهَضُونَ بِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَدُوِّهِمْ، وَحَرَصُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ السَّبِيلَ، فَهُمْ بِأَنْ يُوصَفُوا بِأَنَّهُمْ: "قَدْ أَعْذَرُوا" أَوْلَى وَأَحَقُّ مِنْهُمْ بِأَنْ يُوصَفُوا بِأَنَّهُمْ " عَذَّرُوا ". وَإِذَا وُصِفُوا بِذَلِكَ، فَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَةِ، مَا قَرَأَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: "وَجَاءَ الْمُعْذِرُون"، مُخَفَّفَةً، وَيَقُولُ: هُمْ أَهْلُ الْعُذْرِ. مَعَ مُوَافَقَةِ مُجَاهِدٍ إِيَّاهُ وَغَيْرِهِ عَلَيْهِ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَجَاءَ الْمُعْتَذِرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَلَكِنَّ "التَّاء" لَمَّا جَاوَرَتِ "الذَّال" أُدْغِمَتْ فِيهَا، فَصُيِّرَتَا ذَالًا مُشَدَّدَةً، لِتَقَارُبِ مَخْرَجِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى، كَمَا قِيلَ: "يَذَّكَّرُون" فِي "يَتَذَكَّرُون" وَ" يَذَّكَّرُ "فِي" يَتَذَكَّرُ "وَخَرَجَتِ الْعَيْنُ مِن" الْمُعَذَّرِينَ " إِلَى الْفَتْحِ، لِأَنَّ حَرَكَةَ التَّاءِ مِن" الْمُعْتَذِرِينَ "وَهِيَ الْفُتْحَةُ، نَقَلَتْ إِلَيْهَا، فَحَرَّكَتْ بِمَا كَانَتْ بِهِ مُحَرَّكَةً. وَالْعَرَبُ قَدْ تُوَجِّهُ فِي مَعْنَى" الِاعْتِذَارِ "إِلَى" الْإِعْذَارِ "فَيَقُولُ: " قَدِ اعْتَذَرَ فُلَانٌ فِي كَذَا " يَعْنِي: أَعْذَرَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ لَبِيَدٍ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ فَقَالَ: فَقَدِ اعْتَذَرَ، بِمَعْنَى: فَقَدْ أَعْذَرَ. عَلَى أَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مُعَذِّرِينَ ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانُوا كَاذِبِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ، فَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: كَانَ قَتَادَةُ يَقْرَأُ: " وَجَاءَ الْمُعْذَرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ "، قَالَ: اعْتَذَرُوا بِالْكَذِبِ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: " وَجَاءَ الْمُعْذَرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ "، قَالَ: نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، جَاءُوا فَاعْتَذَرُوا، فَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهُ. فَقَدْ أَخْبَرَ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ إِنَّمَا كَانُوا أَهْلَ اعْتِذَارٍ بِالْبَاطِلِ لَا بِالْحَقِّ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفُوا بِالْإِعْذَارِ، إِلَّا أَنْ يُوصَفُوا بِأَنَّهُمْ أُعْذِرُوا فِي الِاعْتِذَارِ بِالْبَاطِلِ. فَأَمَّا بِالْحَقِّ عَلَى مَا قَالَهُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفُوا بِهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّمَا جَاءُوا مُعَذِّرِينَ غَيْرَ جَادِّينَ، يَعْرِضُونَ مَا لَا يُرِيدُونَ فِعْلَهُ. فَمَنْ وَجَّهَهُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَلَا كُلْفَةَ فِي ذَلِكَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَجَّهَ تَأْوِيلَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَسْتَحِبُّ الْقَوْلَ بِهِ. وَبَعْدُ، فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ، التَّشْدِيدُ فِي "الذَّال" أَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ: {الْمُعَذِّرُونَ}، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى الِاعْتِذَارِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ وُصِفُوا بِذَلِكَ لَمْ يُكَلَّفُوا أَمْرًا عُذِرُوا فِيهِ، وَإِنِّمَا كَانُوا فِرْقَتَيْنِ: إِمَّا مُجْتَهِدٌ طَائِعٌ، وَإِمَّا مُنَافِقٌ فَاسِقٌ، لِأَمْرِ اللَّهِ مُخَالِفٌ. فَلَيْسَ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَوْصُوفٌ بِالتَّعْذِيرِ فِي الشُّخُوصِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَذِّرٌ مُبَالِغٌ، أَوْ مُعْتَذِرٌ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْحُجَّةُ مِنَ الْقَرَأَةِ مُجْمِعَةً عَلَى تَشْدِيدِ "الذَّال" مِنَ "الْمُعَذِّرِين" عُلِمَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَاهُ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي ذَلِكَ مُوَافَقَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: قَرَأَ مُجَاهِدٌ: " وَجَاءَ الْمُعْذَرُونَ "، مُخَفَّفَةً، وَقَالَ: هُمْ أَهْلُ الْعُذْرِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ الْمُعَذِّرُونَ، [فِيمَا بَلَّغَنِي، نَفَرًا مَنْ بَنِي غِفَارٍ، مِنْهُمْ: خُفَافُ بْنُ أَيْمَاءَ بْنُ رَحَضَةَ ثُمَّ كَانَتِ الْقِصَّةُ لِأَهْلِ الْعُذْرِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}، الْآيَةِ].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانَةِ وَأَهْلِ الْعَجْزِ عَنِ السَّفَرِ وَالْغَزْوِ، وَلَا عَلَى الْمَرْضَى، وَلَا عَلَى مَنْ لَا يَجِدُ نَفَقَةً يَتَبَلَّغُ بِهَا إِلَى مَغْزَاهُ "حَرَج" وَهُوَ الْإِثْمُ، يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِثْمٌ، إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي مُغَيِّبِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}، يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ فَنَصَحَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي تَخَلُّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَهُ، لِعُذْرٍ يُعْذَرُ بِهِ، طَرِيقٌ يَتَطَرَّقُ عَلَيْهِ فَيُعَاقَبُ مِنْ قِبَلِهِ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، يَقُولُ: وَاللَّهُ سَاتِرٌ عَلَى ذُنُوبِ الْمُحْسِنِينَ، يَتَغَمَّدُهَا بِعَفْوِهِ لَهُمْ عَنْهَا (رَحِيمٌ)، بِهِمْ، أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي " عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ ". ذِكْرُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي " عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو ". حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}، نَزَلَتْ فِي عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي " ابْنِ مُغَفَّلٍ ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى}، إِلَى قَوْلِهِ: {حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَنْبَعِثُوا غَازِينَ مَعَهُ، فَجَاءَتْهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِي" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، احْمِلْنَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ! فَتَوَلَّوْا وَلَهُمْ بُكَاءٌ، وَعَزِيزٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْلِسُوا عَنِ الْجِهَادِ، وَلَا يَجِدُونَ نَفَقَةً وَلَا مُحَمَّلًا. فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ حِرْصَهُمْ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ، أَنْزَلَ عُذْرَهُمْ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِتَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا سَبِيلَ أَيْضًا عَلَى النَّفَرِ الَّذِينَ إِذَا مَا جَاءُوكَ، لِتَحْمِلَهُمْ، يَسْأَلُونَكَ الْحُمْلَانَ، لِيَبْلُغُوا إِلَى مَغْزَاهُمْ لِجِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مَعَكَ، يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ لَهُمْ: لَا أَجِدُ حَمُولَةً أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهَا (تَوَلَّوْا)، يَقُولُ: أَدْبَرُوا عَنْكَ، {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا}، وَهُمْ يَبْكُونَ مِنْ حُزْنٍ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، وَيَتَحَمَّلُونَ بِهِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ مُزَيْنَةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}، قَالَ: هُمْ مِنْ مُزَيْنَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}، قَالَ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ، مِنْ مُزَيْنَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قِرَاءَةً، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}، إِلَى قَوْلِهِ: {حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}، قَالَ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ. مِنَ مُزَيْنَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}، قَالَ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ ابْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ وَكَانَ أَحَدَ النَّفَرِ الَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}، الْآيَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا}، قَالَ: مِنْهُمُ ابْنُ مُقَرِّنٍ وَقَالَ سُفْيَانُ: قَالَ النَّاسُ: مِنْهُمْ عِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ فِي عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ وَحَجَرِ بْنِ حَجَرٍ الْكَلَاعِيِّ قَالَا دَخْلَنَا عَلَى عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}، الْآيَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا ثَوْرٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو وَحَجَرِ بْنِ حَجَرٍ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ سَبْعَةٍ، مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: «جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحْمِلُونَهُ، فَقَالَ: {لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الْآيَةَ. قَالَ: هُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ: مِنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمِنْ بَنِي وَاقِفٍ: هَرَمِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ يُكَنَّى أَبَا لَيْلَى وَمِنْ بَنِي الْمُعَلَّى: سَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ وَمِنْ بَنِي حَارِثَةَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ، أَبُو عَبْلَةَ وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِعِرْضِهِ فَقَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ: عَمْرُو بْنُ غَنَمهوَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِي». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَوْلُهُ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}، إِلَى قَوْلِهِ: {حَزَنًا}، وَهُمُ الْبَكَّاءُونَ، كَانُوا سَبْعَةً.
|